الرئيسة  |  تأملات                                                          

تأملات: إغلاق باب التوبة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

إن العصاة من المسلمين أنواع؛ فمنهم الذي يخلط عملاً صالحًا وآخر سيئًا بنسب متفاوتة، إما الأعمال الصالحة أكثر من السيئة أو العكس، وقد قال الله تعالى فيهم: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 102].

ومنهم العاصي المنكب على المعاصي والكبائر ومستمر فيها ولا نية لديه في التوبة، فهذا ليس موضوعنا وإن كنا ندعو له بالهداية والصلاح، أما موضوعنا هنا فهو العاصي الذي لديه نية في التوبة ولكن ليس حالاً أو قريبًا وإنما في الوقت الذي يراه مناسبًا في المستقبل، أي يسوف التوبة ويؤجلها إلى أجل غير مسمى، لعلمه بأن باب التوبة مفتوح ولا يغلق إلا عند بعض العلامات التي أخبرنا بها النبي صلَّى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم ومنها طلوع الشمس من مغربها، وعند الغرغرة وخروج الروح من الجسد.

ومع أن هذه العلامات تأتي فجأة إلا أن نفسه تمنيه بأن علامة شروق الشمس من مغربها ليس الآن زمانها وأنه ربما يسبقها إرهاصات وتغيرات كونية غير طبيعية يستشعر منها قرب حدوث ذلك فيبادر إلى التوبة قبل حدوثها. وأما الغرغرة والموت فنفسه تمنيه بأنه لا يزال شابًا وفي صحة جيدة ولا يشكو من أي مرض يسبب الموت، ويزين الشيطان له بأنه لا يزال في العمر بقية كبيرة لأن الأعمار ما بين الستين والسبعين، لذا فإن باب التوبة سيظل مفتوحًا أمامه خلال ذلك.

فما دام الأمر كذلك؛ فإني أنبه إلى أمر خطير جدًا وهو أن هناك علامة أخرى غير العلامتين السابقتين يغلق فيها باب التوبة ويكون الإنسان فيها حيًا وقد يعيش على هذا الحال عشرات السنين ولا يستطيع التوبة خلالها لأنه قد أغلق باب التوبة في وجهه وحيل بينه وبينها، فما هي هذه العلامة أو الحالة؟

لن أتطرق إلى موت الفجأة الذي قد يتعرض له الإنسان بحادث سيارة أو وقوع جسم ثقيل على رأسه أو وقوعه واصطدام رأسه بشيء، أو أي صورة أخرى من صور موت الفجأة التي يغلق فيها باب التوبة في حقه فلا سبيل إليها لأنه قد مات.

وإنما الحالة المقصودة هنا فإن صاحبها يكون حيًا ويعيش بين أهله وإخوانه ومع ذلك يغلق باب التوبة في وجهه فلا سبيل له إليها؛ وهي (فقدان الذاكرة) بأي سبب من الأسباب سواء بحادث ما أو بجلطة في الدماغ أو غير ذلك من الأسباب، ففي هذه الحالة لا يعد الإنسان يعرف نفسه ولا اسمه ولا يتعرف على أهله وأصحابه، فأنى له أن يتذكر ماضيه في المعاصي لكي يتوب منها؟! فهذا إذا بقي فاقدًا للذاكرة حتى الموت يكون باب التوبة قد أغلق في وجهه وهو حي، ثم يموت على ما قدم من المعاصي التي سيحاسب عليها.

لهذا كان من الغباء تأجيل التوبة إلا إذا كان قد وصله سند ضمان بأنه لن يكون ممن يموت فجأة، أو أنه لن يفقد الذاكرة، أو أنه لن يحول بينه وبين التوبة أي حدث طوال حياته وسيكون من أهل التوبة في نهاية المطاف، فإذا لم يصله سند ضمان بذلك يصبح من الذكاء والفطنة تعجيل التوبة والمبادرة إليها مباشرة بعد ارتكاب المعصية وإن تكررت منه، كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18) } [النساء: 17 - 19]. ولهذا أمر الله بالتوبة فقال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [التحريم: 8].

والمبادرة لا تكون إلى التوبة فحسب بل المبادرة أيضًا إلى فعل الطاعات والإكثار منها كما لو علم أنه موته سيكون بعد أيام، حتى لا يكون مثل هذا {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 99، 100] كلا! لا رجعة بعد الموت لعمل الصالحات، بل لا بد من عملها قبل الموت بعد التوبة من المعاصي فعندها يكون مثل هذا {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)} [الفرقان: 70]. فما أعظمها من رحمة ومغفرة من الله أن يبدل السيئات حسنات لمن تاب وآمن وعمل الصالحات!

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلَّم تسليمًا.

عدنان الطَرشَة