الرئيسة  |  الموقع الإسلامي                                                          

القاتل والمقتول

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. أما بعد،

فالحمد لله الحكم العدل الذي جعل في الآخرة يومًا هو يوم الحساب ليحكم فيه بين العباد، قال الله تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ[1]، وليقتص من كل أحد ما عليه من حقوق للآخرين فيؤديها لهم، حتى يقتص الله تعالى للشاة التي لا قرن لها من الشاة التي طال قرناها فنطحت الأولى، قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم: «لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يُقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء»[2]. هذا هو العدل في أداء الحقوق حتى بين الحيوانات ولو كان نطحة بالرأس بين حيوان وآخر، فما بالك في حقوق البشر وخاصة حقوق المسلمين المؤمنين الذين تعرضوا للقتل بغير حق ظلمًا وعدوانًا؟!

لقد اعتاد القتلة القيام بقتل المسلمين حتى أصبح قتل المسلم الواحد وقتل الأعداد الكبيرة من المسلمين سواء عندهم! إنهم يختلقون التبريرات الباطلة والأسباب المزيفة والأحداث المفتعلة ليقتلوا المسلمين! فهل هذه التبريرات والأسباب مقبولة عند رب العالمين وستنقذهم من عذاب يوم الحساب؟! إن علمهم بأنهم لن يتعرضوا لأي محاكمة في محاكم الدنيا يشجعهم على قتل المزيد والمزيد من المسلمين، وعلمهم بأنهم محميون من جهات مختلفة يشجعهم أكثر فأكثر على قتل المسلمين؛ فهل نجاتهم من محاكم الدنيا وعقوباتها تعني أنهم سينجون من محكمة الآخرة وعقوبتها؟! وهل الذين يحمونهم في الدنيا سيقدرون على حمايتهم يوم الحساب؟! هيهات هيهات.. إنهم في يوم الحساب سيتمنون لو يُعادوا إلى الدنيا ليُحاكموا مرات ومرات بدلاً من محاكمتهم ومحاسبتهم مرة واحدة في يوم الحساب وليس ذلك بحاصل لهم ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ[3].

فليس لقتلة المؤمنين مهرب من يوم الحساب، فمهما هربوا ونجوا بأنفسهم في الدنيا فسوف يظل هذا اليوم بانتظارهم وسيظل مسلطًا على رقابهم فلا يفرحوا كثيرًا بالنجاة من العقوبة التي يعاقب بها القانون القتلة في الدنيا؛ إذ ينتظر كل قاتل لمؤمن عن عمد أربع عقوبات في يوم الحساب، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا[4]. حتى ولو لم يقتل القاتل إلا مؤمنًا واحدًا متعمدًا فهذا جزاؤه لأن: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا[5]، ولأن زوال الدنيا أهون على الله من قتل المسلم، قال رسول الله : «لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم»[6]، ولأن قتل المسلم حرام وذنب عظيم قرنه الله بأعظم الذنوب وهو الشرك بالله في عدة آيات في كتاب الله تعالى. ولعظم أمر الحقوق وكثير خطرها كانت أول ما يُحكم بين العباد يوم القيامة، قال النبي : «أول ما يقضى بين الناس في الدماء»[7]، والدماء هي النفوس التي قُتلت ظلمًا في الدنيا.

ولعظم سفك الدم الحرام غلظ منه النبي حتى سماه كفرًا، ففي الصحيحين: «لا ترجعوا بعدي كُفَّارًا يَضربُ بعضُكُم رِقَابَ بعض»[8]، وجعله من أكبر الكبائر والعياذ بالله فقال عليه الصلاة والسلام: «أكبر الكبائر الإشراك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين، وقول الزور» أو قال «وشهادة الزور»[9]؛ ولهذا تعلق بجريمة القتل بغير حق ثلاثة حقوق؛ الأول: حق الله ويعفو عنه بالتوبة، والثاني: حق الأولياء ويسقط بالدية أو القصاص أو العفو، والثالث: حق المقتول ولا يُستوفى إلا يوم القيامة ويكون بأخذ حسنات القاتل إن كان مسلمًا؛ فالأمر شديد جدًا والتبعات عظيمة.

ففي يوم الحساب ليس لقاتل المؤمن عمدًا مهرب حتى من المقتول نفسه الذي قتله في الدنيا، إذ سوف يجيء المقتول بقاتله أمام الله ليسأله عن سبب قتله كما أخبر رسول الله : «يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ناصيته ورأسه بيده وأوداجه تشخب دمًا يقول: يا رب قتلني هذا! حتى يدنيه من العرش»[10]. وسئل ابن عباس عمن قتل مؤمنًا متعمدًا ثم تاب وآمن و عمل صالحًا ثم اهتدى؟ قال: ويحه! وأنى له الهدى؟ سمعت نبيكم يقول: «يجئ القاتل، والمقتول يوم القيامة متعلق برأس صاحبه. يقول: ربِّ! سل هذا، لم قتلني؟». والله! لقد أنزلها الله عزَّ وجلَّ على نبيكم، ثم ما نسخها بعد ما أنزلها[11]، يعني ابن عباس آية ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا... الآية.

وهناك صنف من القتلة الذين يقتلون لا لمصلحة شخصية لهم بل يقتلون لتكون المصلحة والفائدة لغيرهم؛ أي يبيعون آخرتهم بدنيا غيرهم فما أغباهم وما أسخف عقولهم التي هي مثل عقول الحيوانات بل هي أضل وأجهل منها، قال : «يجيء الرجل آخذًا بيد الرجل، فيقول: يا ربِّ هذا قتلني، فيقول الله له: لِمَ قتلتَه؟ فيقول: قتلتُه لتكون العِزَّةُ لك. فيقول: فإنّها لي. ويجيءُ الرجل آخذًا بيد الرجل فيقول: إِنَّ هذا قتلني؟ فيقول الله له: لِمَ قتلتَه؟ فيقول: لتكونَ العِزَّةُ لفلان، فيقول: فإنّها ليست لفلان، فيبوءُ بإِثمه»[12]. فليعلم هذا الصنف من القتلة أن قتله لن يجلب العزة لمن يقتل لأجله بل سيكون الإثم عليه ويستحق على ذلك العذاب الأليم في جهنم، فهل سيأتي (فلان) الذي قتل لأجله لينقذه من هذا العذاب أو ليتبرع بتحمل الإثم عنه؟! ربما يكون هذا ما يتمناه ويتوهمه هذا الصنف من القتلة ولكنه لن يحصل عند معاينة العذاب وإنما الذي سوف يحصل هو العكس وهو أن (فلان) الذي قتلوا لتكون العزة له سيتبرأ منهم ومن أفعالهم وسيلقي اللوم عليهم بأنه كان بإمكانهم رفض أوامره بالقتل ولكنهم لم يفعلوا لأنه كان لهم هوىً ومصلحة في قيامهم بتنفيذ الأوامر بالقتل؛ وكذلك سيفعل الذين كانوا يحمونهم ويشجعونهم على قتل المسلمين؛ فليتحملوا إذًا إثم ما فعلوه وارتكبوه من قتل المسلمين ظلمًا وعدوانًا.

الله أكبر! تخيل أخي المسلم هذا المشهد حيث يجيء المؤمن المقتول بقاتله أمام الله ليسأله عن سبب قتله والقاتل مستسلم للمقتول وخاضع بين يديه ويمشي معه! فهذا مقتول واحد ولك أن تتخيل إذا كان المقتولين ظلمًا بأعداد كبيرة فيجتمعون عليه ويجيؤون به أمام الله فيقولون: يا رب سل هذا لم قتلنا؟! فبماذا سيجيب القاتل؟! بماذا سيجيب وهو في موقف يشهد فيه بنفسه على نفسه ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ[13]، ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا[14]، وكذلك أعضاؤه تشهد عليه ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[15]، بماذا سيجيب بعد أن مات وانكشفت له الحقيقة التي كان في غفلة منها وهو أنه مجرم قاتل ولهذا هو مستسلم للمقتول والمقتولين بين يدي رب العالمين؟! كما قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ[16] بماذا سيجيب وهو يتمنى أنه لو كان ترابًا أو شجرة ولم يكن بشرًا يقتل المؤمنين؟! ثم ولماذا يقتلهم؟! فهل يوجد في الدنيا ما يستحق أن يُقتل من أجله واحد من المسلمين ظلمًا فضلاً عن أكثر من ذلك في حين أن الدنيا جميعًا لا تساوي قتل مسلم واحد ولهذا كان زوالها أهون على الله من قتل مسلم؟! فيا له من عقاب وعذاب ينتظر هؤلاء القتلة!.

وختامًا أدعو الله العلي القدير أن يرفع الظلم والقتل عن المسلمين، وأن يكفيهم شر أعدائهم، وأن يكتب الشهادة لكل مسلم قُتل ظلمًا وتعمدًا، وأن يشفي كل مسلم جُرح بسبب هذا الظلم والعدوان، وأن يتوفانا مسلمين ويلحقنا بالصالحين ويحشرنا في جنات النعيم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلَّم تسليمًا.

عدنان الطَرشَة


[1] الأنبياء: 47.

[2] مسلم 60.

[3] الشعراء: 227.

[4] النساء: 93.

[5] المائدة: 32.

[6] صحيح سنن الترمذي 1126.

[7] البخاري 6471.

[8] البخاري 121، مسلم 232.

[9] البخاري 6871.

[10] صحيح سنن الترمذي 2425.

[11] صحيح سنن ابن ماجه 2122.

[12] صحيح سنن النسائي 3732.

[13] القيامة: 14.

[14] الإسراء: 13-14.

[15] النور: 24.

[16] ق: 22.

تنزيل المقال pdf